فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

قوله: {فلا تحل له} أي تحرم عليه وذكر قوله: {من بعد} أي من بعد ثلاث تطليقات تسجيلًا على المطلق، وإيماء إلى علة التحريم، وهي تهاون المطلق بشأن امرأته، واستخفافه بحق المعاشرة، حتى جعلها لعبة تقلبها عواصف غضبه وحماقته، فلما ذكر لهم قوله: {من بعد} علم المطلقون أنهم لم يكونوا محقين في أحوالهم التي كانوا عليها في الجاهلية.
والمراد من قوله: {تنكح زوجًا غيره} أن تعقد على زوج آخر، لأن لفظ النكاح في كلام العرب لا معنى له إلا العقد بين الزوجين، ولم أر لهم إطلاقًا آخر فيه لا حقيقة ولا مجازًا، وأيًا ما كان إطلاقه في الكلام فالمراد في هاته الآية العقد بدليل إسناده إلى المرأة، فإن المعنى الذي ادعى المدعون أنه من معاني النكاح بالاشتراك والمجاز أعني المسيس، لا يسند في كلام العرب للمرأة أصلًا، وهذه نكتة غفلوا عنها في المقام.
وحكمة هذا التشريع العظيم ردع الأزواج عن الاستخفاف بحقوق أزواجهم، وجعلهن لُعبًا في بيوتهم، فجعل للزوج الطلقة الأولى هفوة، والثانية تجربة، والثالثة فراقًا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث موسى والخضر: فكانت الأولى من موسى نسيانًا والثانية شرطًا والثالثة عمدًا فلذلك قال له الخضر في الثالث {هذا فراق بيني وبينك} [الكهف: 78].
وقد رتب الله على الطلقة الثالثة حكمين وهما سلب الزوج حق الرجعة، بمجرد الطلاق، وسلب المرأة حق الرضا بالرجوع إليه إلا بعد زوج، واشتراط التزوج بزوج ثان بعد ذلك لقصد تحذير الأزواج من المسارعة بالطلقة الثالثة، إلا بعد التأمل والتريث، الذي لا يبقى بعده رجاء في حسن المعاشرة، للعلم بحرمة العود إلا بعد زوج، فهو عقاب للأزواج المستخفين بحقوق المرأة، إذا تكرر منهم ذلك ثلاثًا، بعقوبة ترجع إلى إيلام الوجدان، لما ارتكز في النفوس من شدة النفرة من اقتران امرأته برجل آخر، وينشده حال المرأة قول ابن الزَّبير:
وفي الناس إن رثَّتْ حِبالك وَاصل ** وفي الأرض عن دار القِلَى متحول

وفي الطيبي قال الزجاج: إنما جعل الله ذلك لعلمه بصعوبة تزوج المرأة على الرجل فحرم عليهما التزوج بعد الثلاث لئلا يعجلوا وأن يثبتوا وقد علم السامعون أن اشتراط نكاح زوج آخر هو تربية للمطلقين، فلم يخطر ببال أحد إلا أن يكون المراد من النكاح في الآية حقيقته وهي العقد، إلا أن العقد لما كان وسيلة لما يقصد له في غالب الأحوال من البناء وما بعده، كان العقد الذي لا يعقبه وطء العاقد لزوجه غير معتد به فيما قصد منه، ولا يعبأ المطلق الموقع الثلاث بمجرد عقد زوج آخر لم يمس فيه المرأة، ولذلك لما طلق رفاعة بن سموأل القرظي زوجه تميمة ابنة وهب طلقة صادفت أخرى الثلاث، وتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزَّبير القرظي، جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله إن رفاعة طلقني فبت طلاقي، وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني وإنما معه مثل هدبة هذا الثوب وأشارت إلى هدب ثوب لها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة» قالت نعم قال «لا، حتى تذوقي عسيلته» الحديث، فدل سؤالها على أنها تتوقع عدم الاعتداد بنكاح ابن الزبير في تحليل من بتها، لعدم حصول المقصود من النكاية والتربية بالمطلق، فاتفق علماء الإسلام على أن النكاح الذي يحل المبتوتة هو دخول الزوج الثاني بالمرأة ومسيسه لها، ولا أحسب دليلهم في ذلك إلا الرجوع إلى مقصد الشريعة، الذي علمه سائر من فهم هذا الكلام العربي الفصيح، فلا حاجة بنا إلى متح دلاء الاستدلال بأن هذا من لفظ النكاح المراد به في خصوص هذه الآية المسيسُ أو هو من حديث رفاعة، حتى يكون من تقييد الكتاب بخبر الواحد، أو هو من الزيادة على النص حتى يجئ فيه الخلاف في أنها نسخ أم لا، وفي أن نسخ الكتاب بخبر الواحد يجوز أم لا، كل ذلك دخول فيما لا طائل تحت تطويل تقريره بل حسبنا إجماع الصحابة وأهل اللسان على فهم هذا المقصد من لفظ القرآن، ولم يشذ عن ذلك إلا سعيد بن المسيب فإنه قال: يحل المبتوتة مجرد العقد على زوج ثان، وهو شذوذ ينافي المقصود؛ إذ أية فائدة تحصل من العقد، إن هو إلا تعب للعاقدين، والولي، والشهود إلا أن يجعل الحكم منوطًا بالعقد، باعتبار ما يحصل بعده غالبًا، فإذا تخلف ما يحصل بعده اغتفر، من باب التعليل بالمظنة، ولم يتابعه عليه أحد معروف، ونسبه النحاس لسعيد بن جبير، وأحسب ذلك سهوًا منه واشتباهًا، وقد أمر الله بهذا الحكم، مرتبًا على حصول الطلاق الثالث بعد طلقتين تقدمتاه فوجب امتثاله وعلمت حكمته فلا شك في أن يقتصر به على مورده، ولا يتعدى حكمه ذلك إلى كل طلاق عبر فيه المطلق بلفظ الثلاث تغليظًا، أو تأكيدًا، أو كذبًا لأن ذلك ليس طلاقًا بعد طلاقين، ولا تتحقق فيه حكمة التأديب على سوء الصنيع، وما المتلفظ بالثلاث في طلاقه الأول إلا كغير المتلفظ بها في كون طلقته الأولى، لا تصير ثانية، وغاية ما اكتسبه مقاله أنه عد في الحمقى أو الكذابين، فلا يعاقب على ذلك بالتفريق بينه وبين زوجه، وعلى هذا الحكم استمر العمل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وصدر من خلافة عمر، كما ورد في كتب الصحيح: الموطأ وما بعده، عن ابن عباس رضي الله عنه، وقد ورد في بعض الآثار رواية حديث ابن عمر حين طلق امرأته في الحيض أنه طلقها ثلاثًا في كلمة، وورد حديث ركانة بن عبد يزيد المطلبي، أنه طلق امرأته ثلاثًا في كلمة واحدة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: «إنما ملكك الله واحدة فأمره أن يراجعها». اهـ.

.قال الفخر:

مذهب جمهور المجتهدين أن المطلقة بالثلاث لا تحل لذلك الزوج إلا بخمس شرائط: تعتد منه، وتعقد للثاني، ويطؤها، ثم يطلقها، ثم تعتد منه، وقال سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب: تحل بمجرد العقد، واختلف العلماء في أن شرط الوطء بالسنة، أو بالكتاب، قال أبو مسلم الأصفهاني: الأمران معلومان بالكتاب وهذا هو المختار.
وقبل الخوض في الدليل لابد من التنبيه على مقدمة، قال عثمان بن جني: سألت أبا علي عن قولهم: نكح المرأة، فقال: فرقت العرب بالاستعمال، فإذا قالوا: نكح فلان فلانة، أرادوا أنه عقد عليها، وإذا قالوا: نكح امرأته أو زوجته أرادوا به المجامعة، وأقول: هذا الذي قاله أبو علي كلام محقق بحسب القوانين العقلية، لأن الإضافة الحاصلة بين الشيئين مغايرة لذات كل واحد من المضافين، فإذا قيل: نكح فلان زوجته، فهذا النكاح أمر حاصل بينه وبين زوجته فهذا النكاح مغاير له ولزوجته، ثم الزوجة ليست اسمًا لتلك المرأة بحسب ذاتها بل اسمًا لتلك الذات بشرط كونها موصوفة بالزوجية، فالزوجة ماهية مركبة من الذات ومن الزوجية والمفرد مقدم لا محالة على المركب.
إذا ثبت هذا فنقول: إذا قلنا نكح فلان زوجته، فالناكح متأخر عن المفهوم من الزوجية، والزوجية متقدمة على الزوجة من حيث إنها زوجة، تقدم المفرد على المركب، وإذا كان كذلك لزم القطع بأن ذلك النكاح غير الزوجية، إذا ثبت هذا كان قوله: {حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} يقتضي أن يكون ذلك النكاح غير الزوجية، فكل من قال بذلك قال: إنه الوطء، فثبت أن الآية دالة على أنه لابد من الوطء، فقوله: {تَنْكِحَ} يدل على الوطء، وقوله: {زَوْجًا} يدل على العقد، وأما قول من يقول: إن الآية غير دالة على الوطء، وإنما ثبت الوطء بالسنة فضعيف، لأن الآية تقتضي نفي الحل ممدودًا إلى غاية، وهي قوله: {حتى تَنْكِحَ} وما كان غاية للشيء يجب انتهاء الحكم عند ثبوته، فيلزم انتهاء الحرمة عند حصول النكاح، فلو كان النكاح عبارة عن العقد لكانت الآية دالة على وجوب انتهاء الحرمة عند حصول العقد، فكان رفعها بالخبر نسخًا للقرآن بخبر الواحد، وأنه غير جائز، أما إذا حملنا النكاح على الوطء، وحملنا قوله: {زَوْجًا} على العقد، لم يلزم هذا الإشكال، وأما الخبر المشهور في السنة فما روي أن تميمة بنت عبد الرحمن القرظي، كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك القرظي ابن عمها، فطلقها ثلاثًا، فتزوجت بعبد الرحمن بن الزبير القرظي، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: كنت تحت رفاعة فطلقني فبت طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإن ما معه مثل هدبة الثواب، وأنه طلقني قبل أن يمسني أفأرجع إلى ابن عمي؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» والمراد بالعسيلة الجماع شبه اللذة فيه بالعسل، فلبثت ما شاء الله ثم عادت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: إن زوجي مسني فكذبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: كذبت في الأول فلن أصدقك في الآخر، فلبثت حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتت أبا بكر فاستأذنت، فقال: لا ترجعي إليه فلبثت حتى مضى لسبيله، فأتت عمر فاستأذنت فقال لئن رجعت إليه لأرجمنك، وفي قصة رفاعة نزل قوله: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}.
أما القياس فلأن المقصود من توقيف حصول الحل على هذا الشرط زجر الزوج عن الطلاق لأن الغالب أن الزوج يستنكر أن يفترش زوجته رجل آخر، ولهذا المعنى قال بعض أهل العلم إنما حرم الله تعالى على نساء النبي أن ينكحن غيره لما فيه من الغضاضة، ومعلوم أن الزجر إنما يحصل بتوقيف الحل على الدخول فأما مجرد العقد فليس فيه زيادة نفرة فلا يصح جعله مانعًا وزاجرًا. اهـ.
قال الفخر:
أما قوله تعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا} فالمعنى: إن طلقها الزوج الثاني الذي تزوجها بعد الطلقة الثالثة لأنه تعالى قد ذكره بقوله: {حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أي على المرأة المطلقة والزوج الأول أن يتراجعا بنكاح جديد، فذكر لفظ النكاح بلفظ التراجع، لأن الزوجية كانت حاصلة بينهما قبل ذلك، فإذا تناكحا فقد تراجعا إلى ما كانا عليه من النكاح، فهذا تراجع لغوي. اهـ.

.قال البقاعي:

{فإن طلقها} أي الثاني وتعبيره بإن التي للشك للتنبيه على أنه متى شرط الطلاق على المحلل بطل العقد بخروجه عن دائرة الحدود المذكورة. لأن النكاح كما قال الحرالي عقد حرمة مؤبدة لا حد متعة مؤقتة فلذلك لم يكن الاستمتاع إلى أمد محللًا في السنة وعند الأئمة لما يفرق بين النكاح والمتعة من التأبيد والتحديد- انتهى.
{فلا جناح عليهما} أي على المرأة ومطلقها الأول {أن يتراجعا} بعقد جديد بعد عدة طلاق الثاني المعلومة مما تقدم من قوله: {والمطلقات يتربصن} وهذه مطلقة إلى ما كانا فيه من النكاح. اهـ.
قال البقاعي:
{إن ظنا} أي وقع في ظن كل منهما {أن يقيما حدود الله} أي الذي له الكمال كله التي حدها لهما في العشرة. قال الحرالي: لما جعل الطلاق سراحًا جعل تجديد النكاح مراجعة كل ذلك إيذانًا بأن الرجعة للزوج أولى من تجديد الغير- انتهى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

ووصف {زوجًا غيره} تحذير للأزواج من الطلقة الثالثة، لأنه بذكر المغايرة يتذكر أن زوجته ستصير لغيره كحديث الواعظ الذي اتعظ بقول الشاعر:
اليومَ عندك دَلُّها وحديثُها ** وغدًا لغيرك زندها والمعصم

وأسند الرجعة إلى المتفارقين بصيغة المفاعلة لتوقفها على رضا الزوجة بعد البينونة ثم علق ذلك بقوله: {إن ظنا أن يقيما حدود الله} أي أن يسيرا في المستقبل على حسن المعاشرة وإلا فلا فائدة في إعادة الخصومات.
و{حدود الله} هي أحكامه وشرائعه، شبهت بالحدود لأن المكلف لا يتجاوزها فكأنه يقف عندها.
وحقيقة الحدود هي الفواصل بين الأرضين ونحوها وقد تقدم في قوله: {إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} [البقرة: 229] والإقامة استعارة لحفظ الأحكام تبعًا لاستعارة الحدود إلى الأحكام كقولهم: نَقَض فلان غزله. اهـ.